مقدمة الصابوني
مختصر لتفسير الإمَام الجليل الحافظ عماد الدّين أبي الفِدَاء إسماعِيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 هـ.
اختصار محمد علي الصابوني أستاذ التفسير بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية - مكة المكرمة - جامعة الملك عبد العزيز]
إن الحمد للّه نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، أنزل كتابه الكريم بالحجة الدامغة، والبرهان الناصع، موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المنزل عليه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، نجوم الهدى، وشموس العلم والعرفان، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أمّا بعد: فقد قيَّض اللّه - جل ثناؤه - لكتابه العزيز علماء أتقياء، ومخلصين أوفياء، من أعلام الهدى، وأئمة الصلاح والدين، سهروا على خدمة القرآن العظيم، وبذلوا قصارى جهدهم لتوضيح معانيه، وبيان أسراره، وكشف دقائقه، واستخراج ما فيه من حكم وأسرار، وما احتوى عليه من روائع وعجائب، فكان منهم من سلك طريق الإيجاز، ومنه من سلك طريق الإسهاب والإطناب، ومنهم من اقتصر على التفسير بالمأثور، ومنهم من جمع بين الرواية والدراية إلى غير ما هنالك من طرائق المفسرين وأساليبهم في القديم والحديث.
ولقد كان الإمام العلاّمة، الحافظ الثبت الثقة أبو الفداء إسماعيل بن كثير تنظر ترجمة المؤلف في كتاب المنهل الصافي للمؤرخ الشهير جمال الدين المعروف بابن تغري، وكتاب الدرر الكامنة للحافظ ابن حجر العسقلاني، و ذيل التذكرة للحافظ أبي المحاسن الحسيني، و شذرات الذهب في أخبار من ذهب لعبد الحي بن العماد الحنبلي، و كشف الظنون لحاجي خليفة، و الرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي. المتوفى سنة /774/ هجرية في مقدمة هؤلاء الأئمة الأعلام من جهابذة المفسرين، وقد وضع تفسيرا للكتاب الكريم سمّاه تفسير القرآن العظيم وتفسيره هذا من خير كتب التفسير بالمأثور ومن أوثقها، وهو تفسير جامع بين الرواية و الدراية.. يفسر القرآن بالقرآن، ثم بالأحاديث المشهورة في دواوين السنّة المطهّرة بأسانيدها، ويتكلم على الأسانيد جرحا وتعديلاً، فيبيّن ما فيها من صحيح وضعيف، وغريب أو شاذ، ثم يذكر آثار الصحابة والتابعين، قال السيوطي فيه: لم يؤلف على نمطه مثله وقد وضَّح ابن كثير رحمه اللّه في مقدمة تفسيره هذا المنهج الذي سلكه في تفسيره فقال: فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: أن أصح الطرق في ذلك أن يفسّر القرآن بالقرآن. فما أُجمل في مكان، فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنّة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له بل قد قال الإمام الشافعي رحمه اللّه تعالى: كل ما حكم به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن.
قال اللّه تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} الآية، وقال تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} وقال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون }
ولهذا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : (أَلاَ إني أوتيتُ القرآنَ ومثله معه) يعني السنّة، والسنّة أيضا تنزل عليه بالوحي، كما ينزل القرآن، إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنّة، فإذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنّة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، والأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديّين، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي اللّه عنهم أجمعين مقدمة تفسير ابن كثير صفح/
وإنّا لنجد في عصرنا الحاضر ميل الناس إلى التزوّد من الثقافة الدينية، ولا سيما تفسير الكتاب الكريم، والسنّة النبوية المطهّرة، وكثيراً ما يُسأل الإنسان: أيُّ التفاسير أسهل منالاً، وأجدى فائدة للقارئ في الزمن القليل؟ فيقف المرء واجماً حائراً لا يجد جوابا عن سؤال السائل، علماً بأن كتب التفسير - وللّه الحمد - كثيرة، وفيها فوائد جمة، ودرر متناثرة، وأسرار دينية عظيمة، ولكنها قد حشيت بالكثير من مصطلحات الفنون: من بلاغة، ونحو، وصرف، وفقه، وأصول، وغير ذلك مما كان عقبة كأداء، أمام العامة من القراء، لذلك دعت الحاجة الماسة إلى تذليل هذه الصعاب، تيسير فهم العظيم على عامة الناس، بسلوك منهج السهولة والسلاسة، وقد أشار علينا بعض الأخوة الفضلاء ومنهم الأخ الكريم المدير العام لدار القرآن الكريم باختصار تفسير العلاّمة ابن كثير نظراً لفائدته الجمه ، وما امتاز به عن بقية التفاسير، من تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنّة المطهرة، ثم بأقوال الصحابة والتابعين، مع وضوح العبارة وسهولتها، وجمعه بين التفسير بالمأثور، والتفسير بالمعقول، وقد سبقت معنا كلمة الإمام السيوطي رحمه اللّه: لم يؤلف على نمطه مثله وهي كلم جديرة بالتدبر والاعتبار.
ولما كان تفسير العلاّمة بان كثير رحمه اللّه - على ما فيه من مزايا كريمة - لا ينتفع منه إلا الخاصة من العلماء، وذلك بسبب ما فيه من تطويل وتفصيل لأمور لا حاجة لذكرها، وبخاصة عند ذكر الآثار المروية، والأسانيد للأحاديث الشريفة، مع أن معظمها في كتب الصحاح، وكذلك الكلام على هذه الأسانيد بالجرح والتعديل، وما فيه من خلافات فقهية لا ضرورة لذكرها، مما تجعل الفائدة منه قاصرة على فئة مخصوصة من طلبة العلم الشرعي.
لذلك فقد عزمنا النية على اختصاره، وتنقيته من الشوائب، واستجابة للرغبة الملحّة من إخواننا الأفاضل وبتكليف من دار القرآن الكريم ليعمّ به النفع، وتتحقق منه الفائدة المرجوة، علماً بأن اختصاره لا يعني أننا أغفلنا شطره، وحذفنا كثيراً منه، بل إن ما فعلناه لا يعدوا أن يكون حذفاً لما لا ضرورة له، من الروايات المكررة، والأسانيد المطولة، والآثار الضعيفة، والأحكام التي لا حاجة لها، وبقي روح التفسير كما هو، بثوبه القشيب، وجماله الناصع، وأسلوبه السهل الميسّر، مع تمام الترابط والانسجام.
طريقة الاختصار:
وقد سلكت في منهج الاختصار لهذا التفسير الطريقة التالية أذكرها بإيجاز وهي:
أولا: حذف الأسانيد المطولة والاقتصار على ذكر راوي الحديث من الصحابة والإشارة في هامش الصفحة إلى من خرّج الحديث مثل البخاري ومسلم وغيرهما.
ثانيا:الآيات الكريمة التي استشهد بها المؤلف رحمه اللّه، على طريقته في تفسير القرآن بالقرآن، أثبتناها مع الاقتصار على مكان الشاهد منها، لأنه هو الغرض الأصلي من ذكرها، ولم نذكرها كاملة إذ يكفي الإشارة إليها لفهم المقصود.
ثالثا: الاقتصار على الأحاديث الصحيحة، وحذف الضعيف منها، وحذف ما لم يثبت سنده من الروايات المأثورة، مما نبّه عليه الشيخ ابن كثير رحمه اللّه.
رابعا: ذكر أشهر الصحابة عند التفسير بالمأثور، كذكر ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، مع تثبيت أصح الروايات المنقولة عنهم.
خامساً: الاعتماد على أقوال مشاهير التابعين، المنقولة آراؤهم نقلاً صحيحاً وعدم ذكر جميع أقوال التابعين، لأن في بعضها ضعفاً - كما في سائر الروايات - وفيها الغث والسمين، لذلك فقد اعتمدنا على أصحها وأجمعها وأرجحها، ضربنا صفحاً عن ذكر سائرها للأسباب التي ذكرناها.
سادسا: حذف الروايات الإسرائيلية، سواء كان غرض المؤلف الرد عليها، أو الاستشهاد بها على سبيل الاستئناس لا على سبيل القطع واليقين، إذ في الآثار الصحيحة ما يغني عن الاستشهاد بالروايات الإسرائيلية.
سابعاً: حذف ما لا ضرورة له من الأحكام والخلافات الفقهية، والاقتصار على الضروري منها دون حشو أو تطويل.
ولا يفوتني - وأنا أكتب هذه المقدمة الموجزة على تفسير العلاّمة ابن كثير - أن أتقدم بالثناء العاطر، والشكر الجزيل، لدار القرآن الكريم على جهودها المشكورة في نشر وطبع هذا التفسير القيم، والإشراف على تصحيحه، وترتيبه، وتبويبه، وإخراجه بهذا الشكل الجميل، الذي أرجو أن ينال إعجاب السادة القراء.
واللّه أسأل أن ينفع به المسلمين، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، ويبقيه ذخراً لي يوم الدين {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم} وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة تفسير ابن كثير
قال الشيخ الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه اللّه تعالى ورضي عنه:
الحمد للّه الذي افتتح كتابه بالحمد فقال: {الحمد للّه رب العالمين} وافتتح خلقه بالحمد فقال: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} واختتمه بالحمد فقال بعد ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: {وقضي بينهم بالحق، وقيل الحمد لله رب العالمين} فله الحمد في الأولى والآخرة، أي في جميع ما خلق وما هو خالق، هو المحمود في ذلك كله، ولهذا يُلهمُ أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما يُلهمون النَّفَس {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }
والحمد لله الذي أرسل رسله {مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وختمهم بالنبي الأُمي، العربي المكي، الهادي لأوضح السبل، أرسله لجميع خلقه من الإنس والجن، من لدنْ بعثته إلى قيام الساعة كما قال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} وقال تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : (بعثتُ إلى الأحمر والأسود) فهو صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس، والجن، مبلغاً لهم عن اللّه عزّ وجلّ ما أوحاه إليه من الكتاب العزيز {الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزل من حكيم حميد }
فالواجب على العلماء الكشفُ عن معاني كلام اللّه، وتفسير ذلك وطلبُه من مظانه، وتعلُّم ذلك وتعليمُه كما قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس ما يشترون} فذمّ اللّه أهل الكتاب بإعراضهم عن كتاب اللّه، وإقبالهم على الدنيا وجمعها.
فعلينا أن ننتهي عمّا ذمهم اللّه تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به، من تعلّم كتاب اللّه المُنزل إلينا وتعليمه، وتفهمه وتفهيمه قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق}؟ الآية.
ففي ذكره تعالى لهذه الآية تنبيهٌ على أنه تعالى كما يحيي الأرضَ بعد موتها كذلك يُحيي القلوبَ بالإيمان، ويلينها بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، واللّه المؤمل المسئول أن يفعل بنا هذا، إنه جواد كريم
فإن قال قائل: فما أحسنُ طرق التفسير؟
فالجواب: أنَّ أصح الطرق في ذلك أن يفسَّر القرآن بالقرآن، فما أُجمل في مكانٍ فإنه قد فُسّر في موضع آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنّة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له قال تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون }
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا إني أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه) يعني السنّة المطهرة.
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن من القرآن، فإن لم تجده فمن السنّة، وإذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيّما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، وعبد اللّه بن مسعود، فقد قال ابن مسعود: (والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب اللّه إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب اللّه مني تناله المطايا لأتيته) "رواه ابن جرير الطبري عن مسروق عن عبد اللّه بن مسعود"
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: (حدَّثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا تعلّموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا)
ومنهم عبد اللّه بن عباس الحبرُ البحرُ، ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وترجُمانُ القرآن ببركة دعاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم له حيث قال: ( اللهمَّ فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل).
وقد قال عبد اللّه بن مسعود: (نعم ترجمان القرآن ابنُ عباس).
وقد مات ابن مسعود رضي اللّه عنه في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعُمِّر بعده ابن عباس ستاً وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟
ولهذا غالب ما يرويه السُّدي الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين ابن مسعود و ابن عباس ولكنْ في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حيث قال (بلّغوا عنّي ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) "رواه البخاري عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص"
ولكنَّ هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتضاد، وهي على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح
والثاني: ما علمنا كذبه مّما عندنا مما يخالفه فذاك مردود.
والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل، ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمرٍ ديني.
فصل
إذا لم تجد التفسير في القرآن، ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير فقد قال: (عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها).
ولهذا قال سفيان الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبُك به ...وكسعيد بن جبير و عكرمة مولى ابن عباس و عطاء بن أبي رباح و الحسن البصري و مسروق بن الأجدع و سعيد بن المسيّب و قتاده و الضحاك وغيرهم من التابعين ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عبارتهم تباينُ في الألفاظ، يحسبها من لا علم عنده اختلاقا فيحكيها أقوالاً، وليس كذلك فليتفطن اللبيب لذلك واللّه الهادي.
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار) "رواه ابن جرير بسنده عن ابن عباس وأخرجه الترمذى والنسائي " ولقوله صلى الله عليه وسلم : (من قال في كتاب اللّه برأيه فأصاب فقد أخطأ ) "رواه أبو داود والترمذي والنسائي " أي لأنه قد تكلّف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمر به، لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ولهذا تحرّج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، فقد روي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال: (أيُّ سماء تظلني، وأيُّ أرضٍ تقلّني، إذا أنا قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم).
وروى أنس عن عمر بن الخطاب أنه قرأ على المنبر {وفاكهة وأبَّا} فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبَّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر.
وروى ابن جرير بسنده عن عبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، وعن هشام بن عروة قال: ما سمعتُ أبي يؤول آية من كتاب اللّه قطُّ، وسأل محمدُ بن سيرين عبيده السلماني عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيمن أُنزل القرآن، فاتق اللّه وعليك بالسداد.
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلهم عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه، فأما من تكلّم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عمّا لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} ولما جاء في الحديث الشريف (من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار) "أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة"
مقدمة مفيدة تذكر في أول التفسير قبل الفاتحة
قال أبو بكر بن الأنباري: نزل في المدينة من القرآن البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والرحمن، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، وعشر من التحريم، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر اللّه هؤلاء السور نزلت في المدينة وسائر السور بمكة.
فأما عدد آيات القرآن العظيم فستة آلاف آية، ثم اختلف فيما زاد على ذلك.
وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وغيرها.
فصل:
واختلف في معنى السورة مما هي مشتقة؟ فقيل: من الارتفاع قال النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك دونها يتذبذب
فكأن القارىء ينتقل بها من منزلة إلى منزلة، وقيل: لشرفها وارتفاعها كسور البلد لإحاطته بمنازله ودوره، وقيل: سميت سورة لكونها قطعة من القرآن وجزءاً منه.
وأول الآية: فأصل معناها العالامة، سميت بذلك لانقطاع الكالم الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالها، أي هي بائنه عن أختها ومنفردة قال تعالى: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت }
وقيل: سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها.
وأما الكلمة: فهي اللفظة الواحدة، وقد تكون على حرفين مثل - ما ، و لا ونحو ذلك - وقد تكون أكثر، وأكثر ما تكون عشرة أحرف مثل {أنلزمكموها} و{فأسقيناكموه} وقد تكون الكلمة الواحدة آية مثل {والضحى} ومثل {والفجر}
فصل:
قال القرطبي: أجمعوا على أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب الأعجمية، وأجمعوا أن فيه أعلاماً من الأعجمية كإبراهيم و نوح و لوط واختلفوا: هل فيه شيء من غير ذلك بالأعجمية؟ فأنكر ذلك الباقلاني والطبري وقالا: ما وقع فيه مما يوافق الأعجمية فهو من باب ما توافقت فيه اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم انظر التحقيق الذي ذكرناه في كتابنا التبيان في علوم القرآن صفحة /225/ تحت عنوان هل في القرآن الكريم ألفاظ غير عربية ؟.
سورة الفاتحة
مقدمة
تسمى الفاتحة لأنه تفتتح بها القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضاً أُم الكتاب ولها أسماء منها الحمد والشفاء والواقية والكافية وأساس القرآن
قال البخاري: وسميت - أُم الكتاب - لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة .
وقال الطبري: والعرب تسمي كل جامع أمراً أو مقدم لأمر أُمّاً فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أمّاً قال ذو الرمّة:
على رأسه أمٍّ لنا نقتدي بها * جماع أمور ليس نعصي لها أمراً
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في أُم القرآن: (هي أُم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم) ورواه ابن جرير أيضاً بنحوه.
ما ورد في فضل سورة الفاتحة
أولا: عن أبي سعيد بن المعلَّى رضي اللّه عنه قال: (كنت أصلّي فدعاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم أجبه حتى صلّيت، قال: فأتيته، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال: قلت يا رسول اللّه إني كنت أصلي، قال: ألم يقل اللّه تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}؟ ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول اللّه إنك قلت لأعلمنَّك أعظم سورة في القرآن، قال: نعم {الحمد للّه رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) "أخرجه أحمد ورواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة"
ثانيا: وعن أُبيّ بن كعب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما أنزل اللّه في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي نصفين) "رواه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن أُبي بن كعب " هذا لفظ النسائي.
ثالثا: وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: (كنّا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إنَّ سيّد الحي سليم أي لديغ وإنَّ نفرنا غُيَّب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه ما كنا نأبنه: أي نعيبه أو نتهمه برقيه، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن؟ أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيتُ إلاّ بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي أو نسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: وما كان يدريه أنها رُقْية؟ إقسموا واضربوا لي بسهم) "رواه البخاري ومسلم وأبو داود "، وفي بعض روايات مسلم أن أبا سعيد الخدري وهو الذي رقى ذلك اللديغ .
رابعاً: وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته) "رواه مسلم والنسائي عن ابن عباس ". ومعنى قوله نقيضا أي صوتاً .
خامساً: وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ - ثلاثاً - غير تمام فقيل لأبي هريرة: إنّا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: قال اللّه عزّ وجلّ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال اللّه: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال اللّه: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجّدني عبدي، وقال مرة: فوّض إليّ عبدي، فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم.صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) "رواه مسلم عن أبي هريرة"
الكلام على ما يختص بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة
أولا: أطلق فيه لفظ الصلاة والمراد القراءة كقوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} أي بقراءتك، فدل على عظم القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها، كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله {وقرآن الفجر} والمراد صلاة الفجر.
ثانيا: واختلفوا في مسألة وهي: هل تتعيّن للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب أم يجزئ غيرها؟ على قولين مشهورين:
ا - فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه أنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} وبما ثبت في الصحيحين من حديث المسيء صلاته، وفيه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له: (ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن) فأمره بقراءة ما تيسّر، ولم يعيّن له الفاتحة.
ب - والقول الثاني أنه يعين قراءة الفاتحة، ولا تجزىء الصلاة بدونها، وهو قول بقيه الأئمة مالك والشافعي وأحمد واحتجوا بهذا الحديث فهي خداج والخداج هو الناقص كما فسّر به في الحديث غير تمام واحتجوا بحديث (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) "رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي اللّه عنه " وبحديث (لا تجزىء صلاةٌ لا يُقرأ فيها بأُم القرآن) "رواه ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة أيضا " والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ثالثا: مسألة هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على الإمام لعموم الأحاديث المتقدمة.
والثاني: لا تجب على المأموم قراءة بالكلية، لا في الجهريه ولا في السرية لقوله عليه السلام: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) "رواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد اللّه وفي إسناده ضعف"
والثالث: تجب القراءة على المأموم في السرية لا في الجهريه لما ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا) "رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري ".
تفسير الاستعاذة
- 1 - قال اللّه تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم}
- 2 - وقال تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين. وأعوذ بك رب أن يَحضرون}.
- 3 - وقال تعالى: {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}.
فهذه ثلاث أيات ليس لهنَّ رابعة في معناها.
فاللّه تعالى يأمر بمصانعة العدوّ الأنسي والإحسان إليه، ليرده عنه طبعه إلى الموالاة والمصافاة.
ويأمر بالاستعاذة من العدوّ الشيطانى لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم، لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو}؟
وقد أقسم لآدم وكذب عليه، فكيف معاملته لنا وقد قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين}؟ وقالت طائفة من القراء: يتعوذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية. والمشهور الذي عليه الجمهور: أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها، ومعنى الآية {فإذا قرأت القرآن} أي إذا أردت القراءة، كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} أي إذا أردتم القيام، ويدل عليه ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قام من الليل استفتح صلاته بالتكبير والثناء ثم يقول:( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه) "رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري وأخرجه أصحاب السنن الأربعة"
ومعنى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب اللّه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدّني عن فعل ما أُمرت به، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا اللّه، والاستعاذة: هي الإلتجاء إلى اللّه تعالى من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذُ يكون لطلب الخير كما قال المتنبي:
يا من ألوذُ به فيما أؤمله * ومن أعوذ به ممّا أحاذره
لا يجبرُ الناسُ عظماً أنت كاسره * ولا يهيضون عظما أنت جابره
و الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: من شاط لأنه مخلوق من نار والأول أصح، قال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلانُ إذا فعلَ فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح ولهذا يسمون كل متمرد من جني وإنسي وحيوانٍ شيطانا قال تعالى{شياطين الإنس والجن} وركب عمر برذوناً فجعل يتبختر به، فضربه فلم يزدد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان لقد أنكرت نفسي "رواه ابن وهب عن زيد بن أسلم عن أبيه وإسناده صحيح"
و الرجيم فعيل. بمعنى مفعول، أي أنه مرجومٌ مطرودٌ عن الخير كما قال تعالى: {وجعلناها رجوما للشياطين} وقال تعالى:{وحفظناها من كل شيطان رجيم. إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين}.
الآية رقم (1)
{ بسم الله الرحمن الرحيم }
تفسير البسملة
روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} "رواه أبو داود بإسناد صحيح وأخرجه الحاكم في مستدركه"
وقد افتتح بها الصحابة كتاب اللّه، ولهذا تُستحب في أول كل قولٍ وعمل لقوله عليه السلام: (كل أمر لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرحمن الرحيم فهو أجذم) فتستحب في أول الوضوء لقوله عليه السلام: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه) "رواه أحمد وأصحاب السنن من رواية أبي هريرة مرفوعا"وتستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وأوجبها آخرون، وتستحب عن الأكل لقوله عليه السلام: ( قل: بسم اللّه، وكلْ بيمينك، وكلْ ممّا يليك) "رواه مسلم في قصة عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم"وتستحب عند الجماع لقوله عليه السلام: (لو أنَّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم اللّه، اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه أن يُقدَّر بينهما ولدٌ لم يضره الشيطان أبداً) "رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم "
والمتعلق بالباء في قوله بسم اللّه منهم من قدّره باسم تقديره: باسم اللّه ابتدائي، ومنهم من قدّره بفعل تقديره: أبدأ باسم اللّه، أو ابتدأت باسم اللّه، وكلاهما صحيح فإن الفعل لا بدَّ له من مصدر، فلك أن تقدّر الفعل ومصدره، فالمشروعُ ذكر اسم اللّه في الشروع في ذلك كله تبركاً وتيمناً واستعانة على الإتمام والتقبل، ويدل للأول قوله تعالى: {بسم الله مجريها ومرساها} ويدل للثاني في قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}.
و اللّه علمٌ على الربّ تبارك وتعالى يقال إنه الأسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلى هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} الآيات، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات كما قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} وقال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وفي الصحيحين: (إنّ للّه تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة) "رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم "
وهو اسم لم يسمّ به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف له - في كلام العرب - اشتقاقٌ، فهو اسم جامد وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي و الغزالي و إمام الحرمين وقيل: إنه مشتقُّ من أله يأله إلاهةً، وقد قرأ ابن عباس {ويذرك وإلاهتك} أي عبادتك، وقيل: مشتقُّ من وله إذا تحيّر، لأنه تعالى يحير في الفكر في حقائق صفاته، وقيل: مشتقُّ من ألهتُ إلى فلان: أي سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته، لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال تعالى: {ألا بذكر اللّهِ تطمئنُ القلوب}، وقد اختار الرازي أنه اسم غير مشتق البتة، وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء.
{الرحمن الرحيم} اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، و{رحمن} أشد مبالغة من {رحيم} وزعم بعضهم أنه غير مشتق، قال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما روي في الحديث القدسي: (أنا الرحمن خلقتُ الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته) "أخرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم"قال القرطبي: وهذا نصٌ في الإشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب لاسم {الرحمن} لجهلهم باللّه وبما وجب له، وبناء فعلان ليس كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلاّ على مبالغة الفعل نحو قولك رجلٌ غضبان للممتلىْ غضباً، و فعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال ابن جرير: {الرحمن} لجميع الخلق، {الرحيم} بالمؤمنين، ولهذا قال تعالى {الرحمن على العرش استوى} فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعمّ جميع خلقه برحمته، وقال: {وكان بالمؤمنين رحيما} فخصهم باسمه الرحيم. فدلّ على أن {الرحمن} أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، و {الرحيم} خاصة بالمؤمنين، واسمه تعالى {الرحمن} خاص لم يسم به غيره، قال تعالى: {قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن} وقال تعالى: {أجعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبدون}؟ ولما تجرأ مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه اللّه جلباب الكذب وشهر به، فلا يقال إلا مسيلمة الكذّاب فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر والمدر.
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن لأنه أكّد به، والمؤكِّدُ لا يكون إلا أقوى من المؤَكَّد،
والجواب أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت ولا يلزم ما ذكروه، فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد قيل: إنه لمّا تسمّى غيره بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك، فإنه لا يوصف ب {الرحمن الرحيم} إلا اللّه تعالى، كذا رواه ابن جرير عن عطاء ووجّهه بذلك واللّه أعلم.
والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم اللّه و الرحمن و الخالق و الرازق ونحو ذلك، وأما الرحيم فإن اللّه وصف به غيره حيث قال في حق النبي: {بالمؤمنين رءوفٌ رحيم}، كما وصف غيره ببعض أسمائه فقال في حق الإنسان: {فجعلناه سميعا بصيرا}.
الآية رقم (2)
{ الحمد لله رب العالمين }
قال ابن جرير: معنى {الحمد للّه} الشكر للّه خالصاً دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخراً، {الحمد للّه} ثناءٌ أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد للّه، ثم قال: وأهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلاً من الحمد والشكر مكان الآخر.
قال ابن كثير: وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر، لأنه اشتهر عند كثير من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعديه، والشكرُ لا يكون إلا على المتعديه، ويكون بالجَنَان، واللسان، والأركان كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المحجّبا
وقال الجوهري: الحمد نقيض الذم تقول: حمدت الرجل أحمده حمداً فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعمّ من الشكر، والشكرُ هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، يقال، شكرته وشكرتُ له وباللام أفصح، وأما المدح فهو أعمّ من الحمد لأنه يكون للحي، وللميت، وللجماد، كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده على الصفات المتعديه واللازمة أيضاً فهو أعم.
وفي الحديث الشريف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: أفضلُ الذكر لا إله إلا اللّه، وأفضل الدعاء الحمدُ للّه "رواه الترمذي عن جابر بن عبد اللّه وقال: حسن غريب"وعنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ما أنعم اللّه على عبدٍ نعمة فقال: الحمد للّه، إلاّ كان الذي أعطَى أفضل مما أخذ ) "رواه ابن ماجة عن أنس بن مالك"
وعن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدَّثهم (أن عبداً من عباد اللّه قال: يا رب لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى اللّه فقالا: يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال اللّه - وهو أعلم بما قال عبده - ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال اللّه لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ) "رواه ابن ماجة عن ابن عمر"
والألف واللاّم في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه للّه تعالى كما جاء في الحديث: (اللهم لك الحمد كُلُّه، ولك الملك كلُّه، وبيدك الخير كلُّه، وإليك يرجع الأمر كلُّه) الحديث.
{رب العالمين} الربُّ هو المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح، وكلُّ ذلك صحيح في حق اللّه تعالى، ولا يستعمل الرب لغير اللّه إلا بالإضافة، تقول ربُّ الدار، وأما الرب فلا يقال إلا للّه عزّ وجلّ. و{العالمين} جمع عالم وهو كل موجود سوى اللّه عزّ وجلّ، وهو جمعٌ لا واحد له من لفظه، والعوالم أصناف المخلوقات في السماوات، وفي البر، والبحر.
وقال الفراء وأبو عبيد، العالم عبارة عمّا يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين، ولا يقال للبهائم عالم. وقال الزجاج: العالم كلٌّ ما خلق اللّه في الدنيا والآخرة، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين
قال تعالى: {قال فرعون وما ربُّ العالمين؟ قال ربُّ السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} والعالم مشتقٌ من العلامة، لأنه دال على وجود خالقه وصانعه وعلى وحدانيته جلَّ وعلا كما قال ابن المعتز:
فيا عجباً كيف يعصى الإل * ه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
الآية رقم (3)
{ الرحمن الرحيم }
وقوله تعالى {الرحمن الرحيم} قال القرطبي: إنما وصف نفسه بالحمن الرحيم بعد قوله {رب العالمين} ليكون من باب قرن الترغيب بالترهيب كما قال تعالى: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم} وقوله: {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} فالرب فيه ترهيب، والرحمن الرحيم ترغيب، وفي الحديث: (لو يعلم المؤمن ما عند اللّه من العقوبه ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند اللّه من الرحمة ما قنط من رحمته أحد ) "رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً"
الآية رقم (4)
{ مالك يوم الدين }
قرأ بعض القراء مَلِك وقرأ آخرون مالك وكلاهما صحيح متواتر، و مالك مأخوذ من المِلْك كما قال تعالى: {إنا نحن نرثُ الأرض ومن عليها وإلينا يُرجعون}، و ملك مخوذ من المُلك كما قال تعالى: {لمن الملك اليوم}؟ وقال: {الملك يومئذ الحق للرحمن} وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هناك كل شيئاً، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى {لا يتكلمون إلاّ من أذن له الرحمن وقال صوابا}، وقال تعالى: {يوم يأتي لا تكَلَّمُ نفسٌ إلا بإذنه}، وعن ابن عباس قال: يوم الدين يوم الحساب للخلائق، يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، إلا من عفا عنه.
والمِلْكُ في الحقيقة هو اللّه عز وجل، فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز، وفي الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: يقبض اللّه الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون "رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً"
و الدين : الجزاء والحساب كما قال تعالى {إئنا لمدينون} أي مجزيون محاسبون، وفي الحديث: (الكيّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) "رواه أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث شداد بن أوس مرفوعاً"أي حاسب نفسه، وعن عمر رضي اللّه عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا).
الآية رقم (5)
{ إياك نعبد وإياك نستعين }
العبادةُ في اللغة: مأخوذة من الذلة، يقال: طريقٌ معبّد، وبعيرٌ معبَّد أي مذلّل.
وفي الشرع: هي ما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وفدّم المفعول وكرّر للإهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين، فالأول تبرؤ من الشرك والثاني تبرؤٌ من الحول والقوة والتفويض إلى اللّه عزّ وجلّ، وهذا المعنى في غير آيةٍ من القرآن: {فاعبده وتوكل عليه}، {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} وتحول الكلام من الغيبة إلى الماجهة، لأنه لما أثنى على اللّه فكأنه اقترب وحضرر بين يدي اللّه تعالى فلهذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} بكاف الخطاب، وفي هذا دليلٌ على أن أول السورة خبرٌ من الله تعالى بالثناء على نفسه بجميل صفاته الحسنى، وإرشادٌ لعباده بأن يثنوا عليه بذلك.
وإنما قدّم {إياك نعبد} على {وإياك نستعين} لإن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والأصل أني يقدم ما هو الأهم فالأهم، فإن قيل: فما معنى النون في نعبد و نستعين فإن كانت للجمع فالداعي واحد، وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام؟ وقد أجيب: بأن المراد من بذلك الإخبار عن جنس العباد، والمصلي فردٌ منهم ولا يسما إن كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خُلقوا لأجلها وتوسَّط لهم بخير، وإياك نبعد ألطفُ في التواضع من إياك عبدنا لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعل نفسه وحده أهلاً لعبادة اللّه تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته، ولا يثني عليه كما يليق به، والعبادة مقام عظيم يَشْرُف به العبد لانتسابه إلى جناب اللّه تعالى كما قال بعضهم:
لا تدعني إلا بيا عبدها * فإنه أشرف أسمائي
وقد سمّى رسوله صلى اللّه عليه وسلم بعبده في اشرف مقاماته فقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} وقال: {وأنه لما قام عبد اللّه يدعوه}، وقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} فسماه عبداً عند إنزاله عليه، وعند قيامه للدعوة، وإسرائه به.
الآية رقم (6)
{ اهدنا الصراط المستقيم }
لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته، لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة ولهذا أرشد اللّه إليه لأنه الأكمل.
والهداية ههنا: الإرشاد والتوفيق وقد تُعدَّى بنفسها {اهدنا الصراط} وقد تعدى بإلى {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} وقد تُعدى باللام {الحمد للّه الذي هدانا لهذا} أي وفقنا وجعلنا له أهلاً، وأمّا {الصراط المستقيم} فهو في لغة العرب: الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ثم تستعير العرب الصراط في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج، واختلفت عبارات المفسرين من السلف الخلف في تفسير {الصراط}، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو المتابعة للّه وللرسول فروي أنه كتاب اللّه، وقيل: إنه الإسلام، قال ابن عباس: هو دين اللّه الذي لا اعوجاج فيه، وقال ابن الحنفية: هو دين اللّه الذي لا يقبل من العباد غيره، وقد فسّر الصراط بالإسلام في حديث "النوالس بن سمعان"عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ضرب اللّه مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويْحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجْه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود اللّه، والأبواب المفتحة محارم اللّه وذلك الداعي على رأس لاصراط كتاب اللّه، والداعي من فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مسلم "رواه أحمد في مسنده عن النواس بن سمعان وأخرجه الترمذي والنسائي"وقال مجاهد: الصراط المستقيم: الحق، وهذا أشمل ولا منافاة بينه وبين ما تقدم، قال ابن جرير رحمه اللّه والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنياً به وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم لأن من وُفِّق لما وفِّق له من أنعم عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين فد وفّق للإسلام.
فإن قيل : فكيف يسال المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وهو متصف بذلك؟
فالجواب: أن العبد مفتقر في كل ساعةٍ وحالة إلى اللّه تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها واستمراه عليها، فارشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونه ولاثبات والتوفيق، فقد أمر تعالى الذين آمنوا بالإيمان: {يا أيها الذين آمنوا أمنوا بالله ورسوله}، والمراد الثباتُ والمداومةُ على الأعمال المعينة على ذلك والله أعلم.
الآية رقم (7)
{ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }
قوله تعالى {صراط الذين أنعمت عليهم} مفسّر للصراط المستقيم، والذين أنعم اللّه عليهم هم المذكورون في سورة النساء: {ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن ألوئك رفيقا}، وعن ابن عباس: صراط الذين أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصدّيقين والشهداء والصالحين، وذلك نظير الآية السابقة، وقال الربيع بن أنَس: هم النبيّون، وقال ابن جريج ومجاهد: هم المؤمنون، والتفسير المتقدم عن ابن عباس أعم وأشمل.
وقوله تعالى {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} بالجر على النعب، والمعنى: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين علموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام ب لا ليدل على أن ثَمَّ مسلكين فاسدين وهما: طريقة اليهود، وطريقة النصارى، فجيء ب لا لتأكيد النفي وللفرق بين الطريقتين ليجتنب كل واحدٍ منهما، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهودُ فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى، لكنْ أخصُّ أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم: {من لعنه الله وغضب عليه} وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم: {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وأضلوا عن سواء السبيل} وبهذا وردت الأحاديث والآثار، فقد روي عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم} قال: هم اليهود {ولا الضالين} قال: النصارى ) "رواه أحمد والترمذي من طرق وله ألفاظ كثيرة"ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين ومعناه: اللهم استبج، لما روي عن أبي هريرة أنه قال: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا تلا {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول) "رواه أبو داود وابن ماجة وزاد فيه "فيرتج بها المسجد"
فصل فيما اشتملت هذه السورة الكريمة - وهي سبع آيات - على حمد اللّه وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرىء من حولهم وقوّتهم، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه حتى يقضي لهم بذلك إلى جواز الصراط يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنّات النَّعيم، في جوار النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين.
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوامع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة وهم المغضوب عليهم والضّالّون.
وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله: {أنعمت عليهم} وحذف الفاعل في الغضب في قوله: {غير المغضوب عليهم} وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة، وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به وإن كان هو الذي أضلهم بقدره كما قال تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال.
لا كما تقول القدرية من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلون، ويحتجون على بدعتهم بمتشابه من القرآن ويتركون ما يكون فيه صريحاً في الرد عليهم وهذا حال أهل الضلال والغي.
وقد ورد في الحديث الصحيح: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) فليس - بحمد اللّه - لمبتدع في القرآن حجةٌ صحيحة لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل، مفرقاً بين الهدى والضلال، وليس فيه تناقضٌ ولا اختلاف، لأنه من عند اللّه: {تنزيل من حكيم حميد}.